أحب الكتب الجميلة، وأعرف أنها تحبني، فما يصلني من فرحة بها، لا تأتي أبداً من علاقة حب من طرف واحد.
ليس بالضرورة أن يكون الكتاب أجمل الكتب كي يكون أحبها إلى قلبي، هناك من الكتب ما يذكر بلحظة ما، بإحساس عابر، بوجه أحبه، فأحب الكتاب بكل ما يذكرني به بصرف النظر عن قيمته للعالم أو التاريخ، فأحب كتابا لأنه أول الكتب بعد غياب عن القراءة، أو لابتسامة مؤلفه في وجهي، أو لتوقيع صاحبته، أو لأنه كان _ببساطة_ موجودا معي في لحظة معينة.
ولكل ذلك قد تحتوي مكتبتي على نسختين من كتاب واحد، لأن الكتاب عندي لا يتكرر، فأنا أحتفظ بهوامش، وأشطب، وأكتب، وأصمم على اهداء مكتوب من كل من يمنحني كتابا كهدية، ليصبح الكتاب خليط من كل ذلك، بنسب من المستحيل معها أن يتطابق كتابين، لذلك لا أبيع الكتب المكررة ولا أتخلص منها، فما هو بهذه الحميمية إما أن يقتَنى بما فيه، أو يكون هدية لعزيز.
عام مر على جملة قلتها لملكة في رسالة :
(شفت كتاب لواحد اسمه ساراماجو في سور الأزبكية وشكله مهم) ..
منذ عام كان ساراماجو مجرد واحد آخر، ومنذ 6 شهور لم أكن على علم بوجود يوسا، وخوان رولفو، ووديع سعادة، ولوكليزيو، وباموق، ومحمد صالح، ومحمد علي شمس الدين، ورياض الصالح حسين، وبيسوا، وجاليانو، وبودلير، وساباتو، وغيرهم ..
وقيدت لي الصدفة أصدقاء منهم محمد إيهاب اسماعيل، حسام عبد الباسط، أحمد ندا، حسام دياب، كان لهم فضل في إعادة اكتشاف فرحة الكتب، كل كتاب كان يفتح باباً جديدا للدهشة، وابتلاني الله باللهفة، كأن كل كتاب جديد اتهام للحظة سابقة ضاعت في كتاب ممل، وضوء مركز باستمرار على كل لحظة محملة بعدم الاكتراث بالعالم.
وبدأت أفهم أن كبارا كالمسيري ومحمد عابد الجابري والمخزنجي وعلاء خالد وغيرهم تجمعهم نفس الابتسامة، وهدوء النفس، والقدرة غير العادية على الاستماع، فالاستماع متعة كالقراءة، والمتعة تكتمل وتتضاعف بالسعي، وكلهم ساعٍ في ملكوته الخاص، وكانت الابتسامة الهادئة لكل منهم دافعا ممتازاً للاستمرار في ما أحب.
وأعترف أني بعيد كل البعد عن تلك الابتسامة، عصبي، متقلب المزاج، وأن كتاباً واحدا لأحدهم، يجعلني للحظات واحدا من هؤلاء الطيبين، فأبتسم، وأحسدهم بصدق، وأعيد القراءة.
أعرف أن من ابتلاهم الله بالكتابة، ابتلاهم كذلك بالقلق، وأن هناك كباراً آخرين غلب عليهم القلق، وغلبهم، فأمر على كتبهم متوجساً، وسعيدا بالتلصص، وأن آخرين بالضعف ذاته، والقلق ذاته، والوحدة ذاتها، في منتصف الطريق بين الابتسامة الطيبة، وكراهية العالم، حائرين بين الكتب، على مسافة من كل شئ.
وآخرون أكرههم وأحب كتبهم، أغلبهم كتبوا سيرتهم الذاتية في احتقارالعالم بما فيه، معترفون بشرهم، وممتعون في صراحتهم، وكشفهم لممكنات جديدة في جرح الذات والآخرين، وعذابات خالية من القداسة.
أحب الكتب الجميلة، وأنتظرها، وأحب الابتسامات الطيبة، وأقدس أصحابها، وأشك أحياناً أن وجهي يحمل تلك الابتسامة بشكل مؤقت مع نهاية كتاب جميل في يوم هادئ، ولا أخاطر بالنظر في المرآة، فاكتفي بالقراءة.