Sunday, November 22, 2009

الذي مات




لا أذكر لحظة موتي تحديدا . تتوه مني بين غربتي عن البيت لأول مرة وغربتي عنها . تتعدد الجروح التي ساهم كل منها في قتلي بالتدريج . لعل نزيفي ممتد منذ سنوات بين صفعة الطفولة الأولي ومكالمة من جملة واحدة (ماعادش ينفع).

أعرف هذا الشارع الطويل شاهدا علي النزف الأول في ليلة خميس مشابهة . سرقني الوقت في كشك الجرائد القديم . أفرز الكتب الجديدة وأقرأ الأغلفة وأحسب ما يمكن أن أشتريه في حدود مصروفي الضيق . كان غاضبا كما ينبغي له وكنت مذهولا كما ينبغي لي . (حرام عليك .. قلبي وجعني عليك) .. تجاهلت امي المرتاعة وتكومت علي نفسي في ركن السرير . يومها ضم رأسي إلي صدره العجوز .. (حقك تزعل .. ما انتا متعرفش ان أولاد الشيب يتامي) . كنت أنوي أن أدفعه عني أو أصرخ في وجهه . فقط ضغطت رأسي أكثر في صدره. غلبني النوم في حضنه لأجد الكتب تنتظرني ولم يكرر ضربي حتي مات .

أذكر غضبي علي نفسي بعدها كأنه الذنب . مع ما جاء من صفعات تكرر الجرح ، عصا المعلم علي خلفية (بضربك عشان مصلحتك) ، وكلام أستاذي عن (مجانية التعليم التي خربت الكلية) ، وحتي موت المريض الاول أمامي في غرفة الإنعاش . يومها أرحت رأسي علي كتفها للمرة الأولي وحكيت . قبلت خدي فخاطت جروحا سابقة كأنها تمهد لجرحها القادم .

برحيلها تضغطني الوحشة فأرسمها حروفا دون قصد . تجرحني ملامحها علي الورق فأعود لأمزق ما كتبت في دائرة لا تنتهي إلا بالخروج . لم أعد أسعل أو أدوخ مع دخان السجائر ، ولم تكن هناك لتردعني أو تلومني . لا أجد المتعة في سحب أنفاس السيجارة بقدر ما أجدها في طردها. أنفخ موتي اليومي في اتجاه السماء وأركل حجرا وهميا وأستمر في طريقي .

أصل أسفل البيت . أسرق نفسا اخيرا قبل ان أدهس السيجارة . السلم مظلم على غير العادة . أستند على ذاكرة قديمة وسور السلم . أتفادى الدرجة المهشمة قبل الباب مباشرة . أغرق في عرقي المعتاد ، وأكرر ضبط العوينات علي أنفي ثم أطرق الباب مرتين وأنتظر .

هناك في نفس الركن بأعلى السلم انتظرت عودته قبل أن يؤكد عجوز وقور أن (الميت مبيرجعش) . وعلي السطح أعلاه جلست وقرأت . انتظرت أن أفهم سبب الهواء البارد في صدري رغم حرارة الجو وسر النظرات العابرة حين تعريني أو تثقب قلبي .

أكرر الطرق ولا إجابة فأزداد عنفا وعرقا وعصبية . جار متذمر يعلو بصوته بالسباب ، فأغادر.

أختار طريقا آخر للعودة لعل وجوه الغائبين تغيب .